30 حزيران/ يونيو 2025
تُنشر المقالة أدناه ضمن النشرة الإخبارية نصف الشهرية لـMoving Minds Alliance والتي تتمحور حول الصحة النفسية والدعم النفسي-الاجتماعي، الموضوع المحدّد لشهر حزيران/يونيو.
تلعب العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دورًا محوريًّا في تشكيل واقع الصحة النفسيّة المجتمعيّة. والمنطقة العربيّة تعجّ بعواملَ وأزمات متعدّدة الأبعاد تشكّل بيئةً خصبةً لزعزعة هذه الصحّة؛ من الأزمات والحروب والنزوح وغياب عنصر الأمان، إلى الفقر والتفاوت الطبقي، وتاليًا عدم توفّر خدمات الصحة النفسية- المجتمعية لغير القادرين على تحمّل كلفَتها، مرورًا بضعف الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية اللازمة. إلى ذلك، يُضاف ضعفُ العديد من الاستراتيجيّات الوطنيّة المتعلّقة بخدمات الصحّة النفسيّة. تزيل هذه الاستراتيجيات صبغة السياسة الشاملة للشأن العام عن الأوضاع النفسية فتعزلها عن حياة المجتمع والعوامل المحيطة بالأفراد ولا تتعامل معها على أنها جزء لا يتجرأ من مقاربة شمولية تكاملية لتنمية ورعاية وحماية وتربية الأطفال الصغار وحقّ أصيل من حقوق الإنسان والطفل.
ومع أنّ المنطقة العربية، على وجه الخصوص، عانت لعقود من اضطراباتٍ ونزاعات وكامل عناصر الأزمات متعدّدة الأبعاد، ما زلنا نصطدم بشحّ الدراسات عند معالجة مسألة الصحّة النفسيّة المجتمعيّة. وتتناقص الأدبيّات المنشورة حول الصحّة النفسية المرتبطة بقطاع الطفولة المبكّرة خصوصًا، ما يُحدث فجوةً كبيرةً تخلّف أثرًا على مسارات التعافي. انطلاقًا من هنا، ضاعف كثيرٌ من المؤسسات ومراكز الدراسات المعنيّة بقطاع الطفولة المبكّرة خلال العقد الماضي من جهود سدّ الفجوة البحثيّة.
عَقدُ المآسي ومحاولات سدّ الفجوات
شكّل ارتفاع عدد الحروب في بلدان عربيّة خلال العقد الماضي دافعًا نحو الحاجة إلى تلبية الاحتياجات الحياتية الأساسية. ومع ذلك، ما زالت الفجوة كبيرة يعوزها تضاؤل التمويل والنقص على مستوى الكوادر المتخصّصة، ثمّ الصعوبات اللّوجستيّة، مثل الاعتماد على عيّنات محدودة بسبب صعوبة الوصول إلى الأطفال في مناطق الحروب. وتدخل العوامل الثقافية والاجتماعية ضمن العوائق، ذلك أنّ وصمة العار المجتمعيّة المحيطة بالصحة النفسية ما زالت تهيمن على مجتمعاتٍ عربية، خصوصًا تلك التي تعاني ظروفًا أمنية وسياسية واجتماعية حادّة. تؤثّر هذه الوصمة على مستويات الإبلاغ عن أحداث مؤلمة تولّد بدورها اضطرابات نفسية عميقة لدى الضحايا.
الحديث عن الأطفال الصغار في البلدان العربية، أكثرِ بؤر العالم حروبًا وزعزعةً اقتصاديّة وتفكّك اجتماعي، يعني أنّنا لا نخصّ جيلًا واحدًا فقط بالصدمات والأزمات النفسية اللّاحقة لهذه الأوضاع، بل يعني صدماتٍ وأوضاعًا نفسية صعبة عابرة للأجيال. منذ أكثر من نصف قرن، لم تشهد هذه المنطقة حالةَ سِلْم. لقد عرّضت الحروبُ المتكرّرة والأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية الحادّة الأطفالَ الصغار والأهل ومقدّمي/ات الرعاية إلى صدماتٍ متتالية أنتجت مشاكلَ نفسيّة وسلوكيّة وعاطفيّة. وقد أظهرت دراسات معنيّة بالمنطقة، منذ أكثر من عقد، أنّ الأطفال والمراهقين في مناطق النزاع يتعرّضون إلى مستويات مرتفعة من الصدمات النفسية.
ومع ارتفاع عدد الحروب خلال العامين الماضيين بمستوًى قياسي، ارتفعت الصدمات النفسية. لقد شكّل عام 2024 أحد أسوأ الأعوام على الأطفال في مناطق الحروب، وفق وصف «اليونيسف». العام الحاليّ زادت الأوضاع سوءًا. وقد اجتمعت في البلدان العربية كافّةُ العوامل التي تخلّف أثرًا صادمًا على الأطفال الصغار بشكل أساسيّ ومقدّمي/ات الرعاية: القتل والتهجير والتدمير والتجويع واستهداف القطاع الصحي والتعليمي وغيرها. باختصار، تهديد مستقبلهم.
قطاع غزّة يرزح تحت إبادة جماعيّة قاربت العامين انتُهكت فيها حقوقُ الإنسان والطفل كاملةً من دون استثناء. وبينما أعلنت اليونيسف أنّ نصف مليون طفل كانوا بحاجة إلى خدمات الصحة النفسية قبل الحرب الحاليّة، أعلنت العامَ الماضي أنّ جميع أطفال القطاع أصبحوا بحاجة إلى هذا الدعم، وأنّ كلّ طفل حتّى اليوم (تشرين الثاني/ نوفمبر 2024) تعرّض إلى أحداث مؤلمة وصدمات نفسيّة. أكثرُ من نصف عام مرّ على هذا التصريح والإبادةُ ازدادت شراسة. وما يفاقم المعاناة أنّ مقدّمي/ات الرعاية أنفسهم يعانون من صدمات مستمرّة تحدّ من القدرة على تلبية احتياجات الأطفال. والحال نفسه في الضفّة الغربية المحتلّة حيثُ سَجّل 2023 عامًا قياسيًّا لتهجير الأطفال، تبعه عامان تفاقم خلالهما القتلُ والتهجير وهدم البيوت واستهداف التعليم.
أمّا في لبنان الذي يشهد منذ سنوات وضعًا اقتصاديًّا مزريًا فاقمته الحربُ الإسرائيلية الأخيرة، فقد أشارت «اليونيسف» مطلع العام الحالي إلى أنّ الحرب تركت أثرًا صادمًا على الأطفال، وأنها طالت جميع جوانب حياتهم. كما قدّمت بياناتٍ أظهرت مسارًا تصاعديًّا لناحية عوارض القلق والتوتر والحزن والاكتئاب لدى الأطفال. ومع استمرار احتلال أراضٍ لبنانية حتى اليوم واستمرار الانتهاكات الإسرائيلية وارتفاع وتيرة الاستهداف والترهيب ومنع الأطفال من ممارسة حياتهم بشكل طبيعيّ، فإنّ هذا المسار إلى تصاعد.
ولا يختلف السودان عن هذا المشهد ، فالبلاد التي تشهد أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم يواجه أطفالُها شتّى أنواع الانتهاكات المدمّرة على الصعيد النفسي. قتل وتشويه ومجاعة وتهجير وتجنيد وعمالة للأطفال وتدمير للتعليم وزواج مبكّر وإتجار وانتهاكات جنسيّة وصلت حدّ الاعتداء على أطفال لمّا يبلغوا عامًا واحدًا، ولا تنتهي اللائحة. ولليمن كذلك حصّة وازنة من الأحداث الأليمة على مدى السنوات الماضية ما خلّف أثرًا مَهولًا على الأطفال والأهل ومقدّمي/ات الرعاية، وطال مختلف الجوانب الحياتية، وتاليًا الصحة النفسية.
باختصار، بين الأزمات متعدّدة الأبعاد وصحّة الأطفال النفسيّة علاقة طرديّة. وبينما لا يمكننا التحكّم بالأزمات، يمكن إحداثُ فارق على مستوى التدخّل والدعم النفسي- الاجتماعي وتكثيف الدراسات وتصويب السياسات والاستراتيجيات الوطنية في مسارها الصحيح.