نتواصل لأجل أطفال سعداء
We Communicate For Happy Children

السودان: طفولة مَنسيّة وحقوقٌ ضائعة

 
(وكالة أ ف ب، حزيران/ يونيو 2024)

29 أيار/ مايو 2025

في 15 نيسان/ أبريل 2025 دخلت الحرب الدامية في السودان عامَها الثالث. يُبيّن تسلسلُ الأحداث خلال الأشهر القليلة الماضية تغيُّر خارطة السيطرة الجغرافيّة للمتقاتلين بشكل متسارع. ومع ذلك، ازدادت الأوضاع الإنسانيّة للعائلات والأطفال تدهورًا. مأساة بهذا الحجم تتطلّب تغطية إعلامية ضخمة وحشدًا شعبيًّا وسياسيًّا كبيرًا. ومع ذلك، هي شبه غائبة عن التداول العالمي بالشكل الذي يوازي حجمَها.

ما يزيد عن سنتين من عذاب الأطفال والأمّهات والحوامل ومقدّمي/ات الرعاية. تقارير عن انتهاكات واسعة النطاق للقانون الدولي الإنساني. آلاف القتلى والمصابين والمفقودين أغلبهم نساءٌ وأطفال. بؤرٌ التهمتها المجاعة وأخرى على وشك الإصابة بها. وفاة حوالي 45 ألف طفل بسبب سوء التغذية حتى منتصف نيسان/أبريل الحالي. نزوح قسري لمرّاتٍ عدّة طال، حتى تاريخه، أكثر من 12 مليون مدني، بينهم أكثر من 8 ملايين نازح داخليًّا. حالات اغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي لم يسلَم منها حتّى رُضّعٌ لمّا يبلغوا عامًا واحدًا. أطفال بلا تعليم. تدمير المنازل والمنشآت الصحية والأسواق والبنية التحتيّة المدنيّة. شحٌّ وغلاءٌ في السلع الرئيسيّة. تدهور الوضع البيئي وتراكم النفايات. قطاع طبّي على شفا الانهيار وعدم توفّر المعدّات الطبية والمياه الصالحة للشرب ما يجعل ملايين الأطفال عرضةً للإصابة بالأمراض وعلى رأسها الكوليرا. سوء توزيع للمعونات واستهدافٌ لعاملين في المجال الإنساني وصحافيين ومدافعين عن حقوق الإنسان ومهاجمتهم.

باختصار، يشهد السودان حاليًّا أسوأ أزمة إنسانيّة في العالم. ثلاثون مليون شخص، نصفهم تقريبًا أطفال، بحاجة إلى مساعدات طارئة منقذة للحياة. وقد لخّصت منظّمة «أنقِذوا الأطفال»، على لسان مديرها القُطري في السودان، أوضاعَ الأطفال هناك بالآتي:

               «على مدار عامين، تسبّب النزاع وأعمال العنف المنتشرة في السودان بمعاناةٍ هائلة للأطفال. لقد أصبحت هذه أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم. ولكن، على الرغم من الحاجة الملحّة، ما زالت الأزمة في السودان تحظى بتغطية إعلاميّة محدودة، ولا يوليها العالم أيّ اهتمام».
 

موتٌ بلا عدّاد
المعضلة الأساس في السودان غياب المعطيات الدقيقة وانتشار الأخبار المضلِّلة وعدم القدرة على التحقّق من صحّتها عبر أطراف محايدة، وعلى رأسها الصحافيّون. بحسب «لجنة حماية الصحافيين»، شكّل السودان عام 2024 أحدَ أخطر الدول لممارسة الصحافة وثاني أكثر دولة يُقتل فيها صحافيّون. دفعت التحدّيات الجسيمة صحافيّين/ات إلى الهجرة القسريّة. تبدأ هذه التحدّيات بالعوائق اللّوجستيّة والقدرة على الوصول إلى المعلومات ومنع الدخول إلى مناطق معيّنة، ولا تنتهي بالبحث عن فرص النجاة الجسديّة في ظلّ الاستهداف المباشر. ومنذ بدء الحرب، بلغ عدد وسائل الإعلام السودانيّة في المنفى 10 على الأقلّ، بينما فرّ أكثر من 400 صحافيّ/ة إلى الدول المجاورة، وعلى رأسها مصر، وذلك بحسب «مراسلون بلا حدود» (منتصف نيسان/أبريل 2025). وتستضيف القاهرة أكبر تجمّع للصحافيّين السودانيّين المنفيّين.

وعلى الرغم من تقديم المنابر الإعلاميّة السودانيّة العاملة في المنفى تغطيةً ذات قيمة عالية لما يحدث في الميدان، يبقى التدقيق شبه مستحيل. وعليه، تُقدَّم أرقامٌ تقريبيّة لعدد الضحايا بلغت حوالي 150 ألفًا، وفق إحصائيّات دوليّة وتقارير محليّة. ومع غياب إحصائيات دقيقة لعدد الضحايا من الأطفال والأمّهات، فإنّ المتّفق عليه أنّ القسم الأكبر من إجمالي عدد الضحايا هم أطفال ونساء. في المقابل، ينعكس مقتل المعيلين الرجال سلبًا على الظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للأسرة. ويأتي هذا في ظلّ تكبُّد النساء والأمّهات قدرًا كبيرًا من الخسائر الاقتصاديّة على مستوى الوظائف وفقدان مصادر الدخل، وفي ظلّ وضع اقتصادي متدهور وارتفاع كبير في الأسعار.

تهجيرٌ بلا رحمة
يشهد السودان واحدة من أكبر أزمات النزوح في العالم. لقد أجبرت الحرب أكثرَ من 12,3 مليون شخص على النزوح القسريّ، بينهم 8,1 ملايين نازح داخليًّا و4 ملايين لاجئ في الدول المجاورة التي تعاني في الأصل من أزمات إنسانيّة، على رأسها مستويات مرتفعة من الجوع. يتوزّع اللاجئون على دول مجاورة عدّة أبرزها جنوب السودان وتشاد ومصر وإثيوبيا وليبيا وأوغندا وجمهورية إفريقيا الوسطى. وبينما تواجه الدول المستضيفة ضغطًا هائلًا، تواجه تشاد على وجه الخصوص تحدّيات جسيمة. ويرجع ذلك إلى كونها تستضيف حاليًّا أكثر من مليون و600 ألف لاجئ، بعد تدفّق عدد كبير إليها بفعل تصاعد الاقتتال في شمال دارفور خلال نيسان/ أبريل 2025، بالإضافة إلى ضعف الخدمات الصحية وعدم كفاية القدرة الاستيعابيّة لمواقع الاستقبال الحاليّة والنقص الحادّ في التمويل. وبحسب الأمم المتّحدة، معظم الوافدين إلى تلك المواقع هم من النساء والأطفال الذين يعانون من صدمات نفسيّة، مشدّدةً على أنّ الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية يحتاجون إلى العلاج المناسب.

تعكس الأرقام أعلاه حجمَ الضعف والهشاشة بين الأطفال والنساء، أكثر الفئات تأثّرًا بالحرب الدامية في ظلّ النزوح المتكرّر.
يعيش هؤلاء الأطفال والأمّهات والحوامل في ظروف قاسية ومواقع استقبال مكتظّة، كما يعانون من انعدام الغذاء المناسب والمياه والرعاية الصحّيّة، وتفشّي الأمراض على رأسها الكوليرا والإسهال. وحول ظروف النازحين، نقلت «البعثة الدوليّة المستقلّة لتقصّي الحقائق بشأن السودان»، التابعة للأمم المتّحدة، عن ناجين من مخيّم زمزم الظروفَ القاسية التي عاشوها، واصفينها بالحصار. وأفاد «برنامج الأغذية العالمي» بأنّ الوصول الإنساني إلى المخيّم ما زال شبه مستحيل ما أدّى إلى وفاة أطفال بسبب الجوع. ويُعَدّ مخيّم زمزم أحد أكبر مخيّمات النازحين داخليًّا في السودان، نصف سكّانه من الأطفال الذين يعيشون وسط أسوأ الظروف. وكانت «منظمة أطباء بلا حدود» أعلنت في شباط/ فبراير من العالم الحالي وفاة طفل كلّ ساعتين في المخيّم. وقد تعرّض الأخير إلى قصف شديد أدّى إلى نزوح مئات الآلاف، وما زال كثيرون عالقين فيه.

المجاعة تلتهم الأطفال

تُمثّل الأرقام الصادمة أعلاه تعمّقًا واتّساعًا غير مسبوقَين لأزمة الغذاء والتغذية في السودان. وكحال سائر بؤر الحروب، مثل قطاع غزّة مثلًا، تتلاقى استنتاجات المنظّمات والشبكات المعنيّة على أنّ هذا النوع من الأزمات مدفوعٌ بالنزاعات والحروب. وعليه، التخفيفُ منه مؤكّد متى توقّف الاقتتال. هذا ما صدر عن «بعثة تقصّي الحقائق في السودان» التي أوضحت أنّ الشهادات التي تلقّتها بشأن انعدام الأمن الغذائي والمجاعة (في السودان) قد تكون من صنع الإنسان. وهذا ما أشار إليه أيضًا «التقرير العالمي حول أزمات الغذاء 2025» (أيار/مايو 2025)، الصادر عن «شبكة معلومات الأمن الغذائي» (FSIN).

بحسب التقرير، السودان واحدٌ من أربع دول وبؤر بلغ فيها سوءُ التغذية، خصوصًا بين الأطفال، مستوياتٍ مرتفعةً للغاية على مستوى العالم، وهي، إلى جانب السودان، قطاعُ غزّة ومالي واليمن. هناك، 38 مليون طفل دون سنّ الخامسة يعانون من سوء التغذية الحادّ. كما أشار التقرير إلى أنّه تمّ تأكيد المجاعة في السودان نتيجة النزاعات وانهيار البنية التحتية.

من ناحية أخرى، ساهم انهيار القطاع الزراعي وفقدان الوظائف ومصادر الدخل في الزراعة والري والأعمال الحرفيّة في تدهور الأمن الغذائي في السودان حيث كانت هذه القطاعات تشكّل مصدر رزق رئيسيًّا للمجتمعات الريفيّة. وتُعدّ النساء أبرز المتضرّرين، إذ كنّ يسهمن بحوالي 80% من إنتاج الغذاء. لكنّ الحرب دفعت بهنّ إلى فقدان أراضيهنّ وأدوات الإنتاج والأسواق وسلاسل التوريد، فتوقّف العمل الزراعي وانهارت الخدمات. نتيجةً لذلك، بات العاملون/ات في تلك القطاعات وعائلاتهم وأطفالهم يعتمدون على مساعدات إنسانيّة شحيحة وسيّئة التوزيع، بدلًا من الاعتماد على محاصيلهم الزراعيّة ومواشيهم.

يؤكّد جميع ما سبق الحاجةَ الماسّة إلى تدخّلاتٍ إنسانيّة عاجلة وشاملة لمعالجة أسباب سوء التغذية بين الأطفال والأمّهات والمرضعات والحوامل. وهذا يشمل تحسين الوصول إلى الغذاء والرعاية الصحية والمياه النظيفة، وضمان وصول المساعدات إلى المناطق المغلقة.

السودان: بؤرة أمراض
يرتبط ما سبق بالوضع الصحّي المتدهور في السودان. إنّ ملايين الأطفال هناك يعانون من أوضاع صحية كارثية في ظلّ انهيار النظام الصحّي بفعل الحرب. يشير «التقرير العالمي حول أزمات الغذاء 2025» آنف الذكر إلى تدمير البنية التحتية للمياه والطاقة في 13 ولاية، ما أدّى إلى توقّف 70% من منشآت المياه عن العمل. هذا يترك حوالي 9 ملايين طفل وامرأة من دون مياه آمنة في المنازل والمدارس والمراكز الصحية. ناهيك عن قصف المستشفيات والمراكز الصحية وتصاعد العنف ضدّ الكوادر الطبية.

هذا الوضع الخطر، إلى جانب الاكتظاظ في مخيّمات النزوح، يزيد من تفشّي الأمراض على أنواعها، وعلى رأسها الكوليرا، المنتشرة بالفعل، والإسهال الحادّ، ما يُعرّض الأطفال دون سنّ الخامسة إلى خطر الوفاة. ويُعتبر تقديم اللّقاحات المنقذة لحياة الأطفال تحدّيًا كبيرًا في ظلّ استمرار النزاع. وبحسب «اليونيسف»، من الضروري ضمان تطعيم كلّ طفل في هذه الأوقات الصعبة، ذلك أنّ «عدم تطعيم الأطفال يعني أنّ أمراضًا معدية، كالحصبة والدفتريا وشلل الأطفال، والتي تمّ القضاء عليها في العديد من البلدان، ستعود من جديد».

وتجدر الإشارة إلى أنّ معارك الخرطوم أدّت إلى تدمير المركز العالمي الوحيد لأبحاث المايستوما، وهو مرض فطري نادر يصيب الفئات الأكثر فقرًا خاصّةً من يعملون في الأراضي الزراعيّة. ويُعدّ هذا التدمير ضربة قاسية للجهود البحثية والطبية في التصدّي للمرض، ذلك أنه سيؤدّي إلى انقطاع الدراسات والعلاجات المتاحة وحرمان المرضى من خدمات التشخيص والعلاج. يؤدّي كلّ هذا إلى مفاقمة هشاشة النظام الصحي في البلاد، الهشّ أصلًا، وزيادة معاناة الفئات الأكثر ضعفًا، خاصّةً الأطفال.

التعليم: حقٌّ معلّق
أكثرُ من عامين مرّا على بدء الحرب وما زال السودان يواجه واحدةً من أشدّ أزمات التعليم على مستوى العالم. حتّى اليوم، حوالي 17 مليون طفل خارج المدارس، وآلاف المؤسسات التعليمية مدمّرة، وآلافٌ أخرى مغلقة. تأتي هذه الأزمة بينما عانى السودان لعقود من تدهور مستمرّ في القطاع التعليمي. ومع اندلاع الحرب، تحوّلت المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين، وفُقدت القدرة على توفير بيئة تعليميّة آمنة. يهدّد هذا الوضع جيلًا كاملًا، ويُنذر بارتفاع نسبة الأمّيّة واتّساع الفجوة بين صفوف الأطفال وانهيار البينة المجتمعيّة في ظلّ غياب شبه تامّ للمؤسسات التعليمية الحكوميّة. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة من قِبل مؤسسات دولية، بينها «اليونيسف» وشركاؤها، لتأمين التعليم للأطفال، ما زالت التحديات جسيمة وفجوة التمويل مَهولة.

جرائم في الظلّ والعلن: انتهاكات جنسيّة تطال الأطفال والأمّهات

«إنّ تعرّض أطفال بعمر السنة للاغتصاب من قِبل رجال مسلّحين هو أمرٌ جلل يجب أن يهزّ أركان كلّ إنسان ويدفعه إلى اتخاذ إجراءات فورية».

بهذه الكلمات تختصر «اليونيسف» الواقع المأساويّ للأطفال والأمّهات. والخطير كذلك أنّ هذا النوع من الانتهاكات يستخدمه المجرمون سلاحًا في الحرب.

إلى جانب حالات الاغتصاب، تشهد فتياتٌ ونساءٌ وأمّهات وحتى أطفال أشكالًا أخرى من الانتهاكات الجنسيّة على رأسها محاولات اغتصاب والاسترقاق الجنسي والاختطاف والاستعباد الجنسي. وقد اعتبرت «منظّمة العفو الدوليّة» أنّ الهدف من العنف الجنسي بحقّ النساء والفتيات في السودان إذلالُهنّ وفرض السيطرة وتشريد المجتمعات. وروَت قصصًا مروّعة عن الناجيّات، منهنّ عن إحدى الأمّهات التي تعرّضت إلى اغتصاب واستعباد جنسي لمدة شهر كامل بعد انتزاع رضيعها منها. كما أوضحت كمَّ الأضرار النفسيّة والجسديّة التي تتعرّض لها الناجيات، وكذلك الأطفال الذين شهدوا اغتصاب أقاربهم.

ولا تمثّل الحالات المسجّلة سوى جزءٍ يسيرٍ من إجمالي الحالات. ويرجع هذا إلى أسباب عدّة أبرزها عدم رغبة الناجين وأسرهم في الإبلاغ عمّا جرى، أو عدم قدرتهم على ذلك إمّا:

  • بسبب صعوبة الوصول إلى الخدمات والعاملين/ات في الخطوط الأماميّة
  • أو الخوف من الوصم
  • أو الخوف من أن تتخلّى عنهم أسرهم ومجتمعاتهم
  • أو الخوف من انتقام الجماعات المسلّحة
  • أو الخوف من تسريب المعلومات

 

مهما تكن الأسباب والدوافع فالنتيجة واحدة؛ أطفال السودان في سباقٍ مع الزمن وسط أكبر أزمة إنسانيّة في العالم. ومع ذلك، التمويلُ الضروري لإنقاذ الحياة غير كافٍ، وأصواتُ المنظّمات تتعالى: إن لمْ تضعوا السودان على رأس لائحة الاهتمامات وترفعوا التمويل المخصّص لإنقاذ الأطفال فالمخاطر جمّة.

آن الأوان لوضع أطفال السودان وعائلاته وأمّهاته على خارطة السياسات العالميّة.