نتواصل لأجل أطفال سعداء
We Communicate For Happy Children

غزة: الإبادة الجماعية في شهرها الثالث - قتلٌ ممنهج ولِموتِ الأطفال آلاف الطرق

 

الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تدخل شهرها الثالث، والكوارث وحجمُ الإجرام بحقّ الأطفال والأهل ومقدّمي الرعاية تتضاعف. عدد الشهداء يتخطّى 20 ألفًا، من بينهم ما يفوق 8000 طفل، وأكثر من 52 ألف جريح، بينما تشير تقديرات «المرصد الأورومتوسّطي لحقوق الإنسان» إلى قتل إسرائيل أكثر من 9 آلاف طفل ورضيع منذ بدء حربها على القطاع في ظلّ وجود المئات تحت الأنقاض، ما يرجّح أن يكون عدد الأطفال الشهداء قد تخطّى الـ10 آلاف من أصل أكثر من 23 ألفًا. أسبوعٌ من الهدنة لم يكن كافيًا لتخفيف وقع ما خلّفته الحرب، ومعها الحروب السابقة. ما بعد الهدنة أقسى ممّا قبلها. وما كان يتمّ التحذير منه مرارًا على مدى الشهرين الأوّلين أصبح واقعًا لا مفرّ منه: أمراض، أوبئة، تقليص «المساحات الآمنة» وتهجير مئات الآلاف من الجنوب إلى أقصى الجنوب- من خان يونس التي تشهد معارك إلى رفح التي يمطرها القصفُ برًّ وبحرًا وجوًّا- وفاة أطفال بسبب الجفاف والجوع، صدمات نفسية، على حافّة المجاعة. ما لم يتحقّق منه بعد، آتٍ لا محال. أمّا ما قد يُقلّص من تبعات ذلك أمران: وقف فوري ودائم لإطلاق النار، والتدخّل المستعجل، ومن دون عوائق، مع تكثيف مجهود العمل لنشل الأطفال من «المقبرة الجماعية» التي يعيشون وسطها، وفق تعبير «اليونيسف».
تجدر الإشارة إلى أنّ تبعات الحرب تتخطّى فلسطين المحتلّة لتصل إلى دول عربية مجاورة تطال بعضَها الضرباتُ الإسرائيلية، إذ تحدّثت دراسة للأمم المتحدة، نُشرت في 13 كانون الثاني/ ديسمبر، عن التكلفة الاقتصادية الباهظة على لبنان ومصر والأردن والتي قد تصل إلى 10 مليارات دولار هذا العامّ وتدفع أكثر من 230 ألف شخص إلى الفقر، في وقتٍ تعيش هذه الدول في الأصل أزماتٍ اقتصادية كبيرة على رأسها لبنان ومصر.

أن تولدَ اليوم في غزة باستخدام مقصّ الورق والمشابك البلاستيكية الخاصة بالملابس وضوء هاتفها المحمول، وعلى أصوات القصف الإسرائيليّ ودعَوات الجيران واللاجئين في مبانٍ متصدّعة هربًا من الهمجيّة الإسرائيلية، قصّت الممرّضة نور معين حبلَ السرّة لابنة أختها حديثة الولادة داخل المنزل.

كان على وجيهة الأبيض (29 عامًا) الانتظار أربعين دقيقة وصولَ سيارة إسعاف تنقلها إلى المشفى كي تلد طفلها أحمد. في طريقٍ معتمٍ فارغٍ سوى من الحطام وأصوات القصف، تخبّطت مع جنينها داخل سيارة الإسعاف التي تسير بسرعة البرق خشية تعرّضها إلى قصفٍ إسرائيلي. من دير البلح وسط القطاع إلى مستشفى العودة في مخيّم النصيرات رحلةَ عشرين دقيقة حسبتها وجيهة دهرًا. جناح الولادة خارج الخدمة، إذ تمّ تخصيصه لعلاج أعداد كبيرة من ضحايا الحرب. على وجيهة وأحمد الانتظار ساعةً أخرى. «تجربتي أثناء الولادة كانت كابوسًا بكلّ معنى الكلمة، أو ما يشبه فيلم رعب»، تقول الأمّ، ومعها عشرات الأمّهات اللواتي كنّ يحمينَ أطفالهنّ حديثي الولادة تحت ثيابهنّ خشيةَ تناثر الزجاج بفعل القصف المتكرّر كلّ خمس دقائق بالقرب من المستشفى.

قصّة نور ووجيهة قصّة عشرات آلاف النساء الحوامل في القطاع. حوالي 50 ألف امرأة حامل يعُزن الخدمات الصحية في ظلّ نقص الإمدادات والأدوية والمياه النظيفة والتغذية السليمة. 183 طفلاً معدّلُ الولادات اليومية في القطاع، ومن المتوقّع أن تضاف حوالي 5500 ولادة خلال الأسابيع المقبلة. نسبة الإجهاض وحالات الولادة المبكّرة أعلى من معدّلاتها السابقة. والأمّهات يُجبَرن على ترك أطفالهنّ في أشباه المستشفيات والتوجّه نحو مراكز اللجوء من دون مستلزمات شخصية أو طبية. يأتي هذا بينما القطاع الصحّي في غزة منهار مع خروج أغلب المستشفيات عن الخدمة مع بقاء 13 مشفى من أصل 36 في الخدمة بشكل جزئيّ، وفق «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» (OCHA)، في ظلّ تقنين إسرائيل بشكل حادّ إدخال الوقود الضروري لعمل المستشفيات إلى القطاع، ووفاة أطفال خدّج نتيجةً لذلك.  ناهيك عن الظروف الكارثيّة للحوامل أو اللاتي أنجبن حديثًا أو المرضعات في أماكن اللجوء المكتظّة. 

 

سيدة فلسطينية بعد قصف إسرائيليّ في رفح جنوب قطاع غزة، 14 كانون الأول/ ديسمبر 2023 (أ ف ب)

 

«من ينجو من القصف قد يموت مرضًا»

استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة يعني استمرار انتشار الأوبئة والأمراض، حدّ تحذير «المرصد الأورومتوسّطي لحقوق الإنسان» من تحوّل القطاع إلى «منطقة منكوبة تتفشّى فيها الأوبئة والأمراض السارية بصورة كارثيّة وغير معهودة في التاريخ الحديث للبشرية». إنّ سكان غزة، ونصفُهم من الأطفال، يواجهون صراعًا ليس فقط بالقنابل والصواريخ الفتّاكة، بل بالأوبئة والأمراض المعدية في ظلّ انهيار صحي شامل بهدف تعميق الإبادة الجماعية، وفق تعبير المرصد.  

بحسب «الأونروا»، انتشرت الأمراض المعويّة في غزة بمعدّل 4 أضعاف ما كانت عليه سابقًا، والجلديّة 3 أضعاف. كما أنّ هناك تقارير عن انتشار الكبد الوبائي في القطاع، إلى جانب بدء تفشّي أمراض أخرى مثل الكوليرا. وقد شهدت إحدى مدارس المنظّمة تفشّيًا لمرض التهاب الكبد الوبائي أ، وقالت منظمة «أنقِذوا الأطفال» Save the Children إنّ «الذين نجوا من القصف يواجهون الآن خطر الموت الوشيك بسبب الجوع والمرض»، متحّدثةً عن انتشال ديدان من الجروح. 

في أماكن اللّجوء أوضاعٌ كارثية بات الكلامُ أعجزَ عن وصفها. حوالي مليون و900 ألف شخص في غزة أصبحوا نازحين داخليًّا ويقيمون مع أطفالهم في مراكز غير مخصصة أو مناسبة للإيواء، وسط اكتظاظ هائل، ما يلقي بتداعيات جسيمة على الأطفال وسلامتهم، وفق «المرصد الأورومتوسّطي». وفقًا لـ(OCHA)، نقلاً عن وزارة الصحة في غزة، هناك تقديرات بوجود 360 ألف حالة من الأمراض المعدية في الملاجئ. 

أطفالٌ يصطفّون بالمئات لاستخدام مرحاضٍ واحد. الشتاء يغمر الأماكن والخيم التي يقيم فيها مئات آلاف الأطفال وعائلاتهم. وبسبب الاكتظاظ وسوء الظروف الصحية ونقص المراحيض وخدمات الصرف الصحي، تسجّل هذه الأماكن معدلات كبيرة لأمراض وحالات معدية مثل الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي الحادة والتهابات الجلد والحالات المرتبطة بالنظافة. كما أدّى نقص الوقود إلى إغلاق محطات تحلية المياه ومحطات الصرف الصحي ما زاد من خطر انتشار العدوى البكتيرية، إذ أنّ مياه الشرب الملوّثة تنقل أمراض الإسهال والدوسنتاريا والتيفوئيد وشلل الأطفال.

وتتصاعد مخاطر تكدّس النفايات في الأحياء السكنية لقطاع غزّة الذي يُنتج يوميًّا ألفَي طنّ ما يهدّد بتفاقم كارثة صحية وبيئية خطرة. وقد جمع المرصد شهاداتٍ لأطباء ومسؤولين صحيين في منظمات إغاثية دولية توثّق أكثر من 20 ألف حالة مرتبطة بعدوى في الجهاز التنفسي العلوي خلال الأسبوع الأول من شهر كانون الأول/ ديسمبرفقط، علمًا أنّ القطاع يسجّل نحو ألفَي حالة مرتبطة بأمراض الجهاز التنفسي بأنواعه شهريًّا في الأوضاع الاعتيادية. وتتزايد المخاطر مع إقبال فصل الشتاء وارتفاع احتمال تحلّل النفايات. ومع تكدّس الجثث تحت الأنقاض، والتي يُقدّر عددها بالآلاف، يرتفع خطر تفشّي الأوبئة والأمراض.

وخلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، تمّ تسجيل أكثر من 50 حالة إسهال عنيف نصفها لأطفال أصغر من خمس سنوات، علمًا أنّ الإسهال العنيف قد يسبّب الوفاة في ظلّ سوء التغذية وضعف الحالة الجسمانية التي يعاني منها السكان لا سيما لدى الأطفال.

وفي مضاعفةٍ لحجم الإجرام الإسرائيلي بحقّ الأطفال، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية نفاد كافة تطعيمات الأطفال في القطاع، مؤكدةً أنّ الانعكاسات الصحية لهذا الأمر ستكون كارثيةً على الأطفال وانتشار الأمراض، خاصةً بين النازحين في مراكز الإيواء المكتظّة. كما طالبت المؤسسات الأممية بسرعة التدخل لتوفير التطعيمات اللازمة وضمان وصولها إلى كافة المناطق.

 

المجاعة تطرق أبواب غزة

الجوع ينهش غزّة. لم يعد غريبًا مشهد أطفالٍ يجوبون الشوارع بحثًا عن طعام في محافظات القطاع، وهو ما تحدّثت عنه منظمة «أنقِذوا الأطفال» Save the Children. وفق تقرير «برنامج الأغذية العالمي» لشهر كانون الأول/ ديسمبر 2023، لا أحد في قطاع غزة تقريبًا يملك ما يكفي من الطعام، وفي بعض الأماكن، 9 من أصل 10 أشخاص قضوا يومًا كاملاً وليلة من دون طعام خلال الأسابيع الأربعة الماضية، أي حوالي  88% من الأسر في المحافظات الشمالية (للقطاع)، وحوالي 54% في المحافظات الجنوبية.

بحسب التقرير المفصّل، تواجه المحافظات الشمالية مستويات مقلقة من الجوع، فحوالي نصف الأسر اختبرت مستويات عالية أو عالية جدًّا من الجوع الشديد. 4% فقط اختبرت مستويات متدنّية أو لم تشعر على الإطلاق بالجوع. أما في المحافظات الجنوبية، أبلغ ثلثُ الأسر عن مستويات عالية أو عالية جدًّا من الجوع الشديد، و53% من الأسر تحدّثوا عن جوع معتدل، في حين أشار 14% إلى أنهم لم يشعروا بالجوع.

باختصار، يواجه قطاع غزة خطر المجاعة. ووفق تعبير «المرصد الأورومتوسّطي»، إنّ الأطفال في قطاع غزة يواجهون بشكلٍ صادمٍ خطر الموت جوعًا وعطشًا، لا سيّما في مناطق مدينة غزة وشمالها التي تنعدم فيها تقريبًا فرص الحصول على وجبة طعام واحدة يوميًّا للغالبية العظمى من العائلات، في وقتٍ تُجبر فيه على استخدام أساليب غير آمنة وغير صحية لإشعال النار بهدف الطهي.

ذوو الإعاقة في مرمى النيران والإجرام

يشكّل ذوو الإعاقة، تحديدًا الأطفال منهم، إحدى أكثر الفئات تأثّرًا بالحرب الإسرائيلية. وفق «المرصد الأورومتوسّطي» و«شبكة الأجسام الممثلة للإعاقة»  (DRBN) يبلغ عدد المصابين بإعاقات في الهجمات الإسرائيلية الحالية أكثر من 5 آلاف شخص تحمل مخاطر شديدة على حياتهم بفعل الضعف الشديد في الرعاية الطبية وانهيار النظام الصحي.

يرجّح «الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني» ارتفاع عدد ذوي الإعاقة نتيجة العدوان الحالي إلى 12 ألفًا، وذلك بالاستناد إلى تقارير سابقة صادرة عن وكالة «الأونروا» أشارت إلى أنّ حوالي ثلث الإصابات في حرب 2014 الدامية تسبّبت بإعاقات دائمة للمصابين في حينه. وبالنظر إلى ارتفاع عدد المصابين حاليًّا وانخفاض الرعاية الصحية ومنع الموادّ الطبية الأساسية من دخول القطاع واستهداف المستشفيات ومراكز الرعاية والطواقم الطبية ومحاصرتها واعتقال بعض الكوادر الطبية، فإنّ ارتفاع عدد ذوي الإعاقة أمرٌ شبه محتوم.

وبحسب «الجهاز المركزي»، يشكّل الأطفال 17% من مجمل جرحى الحرب الإسرائيلية الحالية حتى 3 كانون الأول/ نوفمبر، وهم يعانون من إصاباتٍ خطرة تترك آثارًا طويلة المدى على صحّتهم

وحياتهم وقد يحتاجون إلى جراحات متكرّرة وعلاجات طبّية مكلفة. كما أنّ الإصابات قد تؤدّي إلى الإعاقة والعجز الدائم ما يحول دون وصولهم إلى التعليم، كما ترفع احتمالات إصابتهم بصدمات واضطرابات نفسية ممّا يؤثّر على تطوّرهم النفسي والاجتماعي.

ويواجه ذوو الإعاقة كذلك تحديات كبيرة في مراكز اللجوء المكتظّة نظرًا إلى نقص الرعاية الصحية وعدم قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الصحية فيها. ومن أكثر الفئات معاناةً ذوو الإعاقة الحركيّة، خصوصًا المصابين بشللٍ في الأطراف السفلية والشلل الرباعي وضمور العضلات والذين يحتاجون بشدّة إلى الكهرباء وأجهزة التنفس وغيرها من المسلتزمات المتعذّر وصولها بسبب قطع الكهرباء والحصار الإسرائيليَّين. ويزداد الخطر على حياة ذوي الإعاقة خلال طلبات الإخلاء القسري أو الهرب ممّا أبقاهم في حالاتٍ كثيرة في أماكنهم وجعلهم عرضةً للموت. 

ومع استمرار العدوان والقصف العشوائيّ، وانخفاض المعدّات والمساعدات الطبية المطلوبة بالإضافة إلى عمليّات التفتيش المطوّلة لقوافل الإمدادات الطبية في غزة وحجز عاملين في القطاع الصحي ما أدّى إلى وفاة أحد المرضى، ترتفع العمليات الجراحية التي تُجرى على الأطفال، ومن دون تخدير، وبعضها يؤدّي إلى بتر الأعضاء بهدف إنقاذ الحياة. ونظرًا إلى حظر إسرائيل عمدًا سفر آلاف المرضى إلى خارج القطاع وسماحها فقط لـ 430 جريحًا من أصل حوالي 49 ألف جريح، أي حوالي 1% فقط، من المرور عبر معبر رفح، وفق «المرصد الأورومتوسّطي»، فإنّ عددًا كبيرًا من الجرحى والأطفال يفقدون حياتهم أو يضطرون إلى إهمال معالجة إصاباتهم ممّا يعرّضهم إلى خطر الإصابة بإعاقةٍ دائمة.

إنّ استهداف ذوي الإعاقة أو منع المساعدة الطبية عن المرضى بفعل الحروب المتكرّرة، والنقص الحادّ في الأجهزة المساعِدة نتيجة الحصار الإسرائيلي، سياسةٌ إسرائيليةٌ ممنهجة سابقة على الحرب الحاليّة. قبل الحرب، كان يقدَّر عدد ذوي الإعاقة في القطاع بحوالي 85 ألف شخص، يشكّلون نسبة 2.6% من إجمالي سكّان القطاع. وقد تضاعف عدد ذوي الإعاقة منذ 2007 وحتى 2017 من حوالي 24 ألفًا إلى أكثر من 84 ألفًا، وفق «الجهاز المركزي». كما بلغ عدد المسجّلين من ذوي الإعاقة لعام 2022 أكثر من 55 ألفًا. ولا تختلف سياسة غزة عن تلك المعتمَدة في الضفة الغربية حيث قُدّر عدد ذوي الإعاقة قبل الحرب الحالية بحوالي 59 ألفًا، وحيث لا يتوانى جنود الاحتلال عن استخدام الرصاص الحيّ في وجههم ما يؤدي إلى حالات استشهاد.

يأتي ذلك في وقتٍ صادقت إسرائيل عام 2012 على «اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ذوي الإعاقة» والتي تجبر الدولَ الأعضاءَ اتّخاذ «كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتّسم بالخطورة، بما في ذلك حالات النزاع المسلّح».

سيدة فلسطينية من آل عاشور تحمل جثمان طفلٍ قتله قصفٌ إسرائيليّ في رفح جنوب قطاع غزة، 14 كانون الأول/ ديسمبر 2023 (أ ف ب)

 

الوضع النفسي لأطفال غزّة 

«في غزّة، لا وجود لاضطراب ما بعد الصدمة لأنّ الصدمة متكرّرة ومتواصلة ودائمة». (سماح جبر، رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية)  

«أطفالي يتبوّلون على أنفسهم من الذعر والخوف والبرد. لا علاقة لنا بهذا. أيّ ذنبٍ ارتكبنا؟» (زياد حمد، والد عائلة فلسطينية، تقرير لـ«منظمة العفو الدولية»، 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)  إنّ طفلاً وُلد في غزّة منذ 16 عامًا، وتمكّن من النجاة، اختبر رعبَ خمس حروب أساسية على الأقلّ، بينها «حروبٌ صغيرة» يطلق عليها الجيشُ الإسرائيلي تسمية سياسة «جزّ العشب» Mow the Lawn. وإنّ طفلاً وُلد العام الماضي، أو هذا العام، أو وسط هذه الحرب، يعيش رعبًا لا مثيل له، وفق وصف منظماتٍ إنسانية وإغاثية. تتراكم الصدمات النفسية والاضطرابات التي عايشها أطفال غزّة في السابق وما يعيشونه اليوم، من فقدان أحد الوالدين أو كلَيهما أو عائلتهم بأكملها، إلى فقدان أصدقاء وأقارب وأحبّة، ومعاينة الموت والقصف والدمار بأمّ العين، والرعب المستدام من موتٍ وشيك وقصفٍ عشوائيّ، والآثار النفسية المهولة لتجربة التهجير القسريّ القاسية، ناهيك عن الحصار المطبق المفروض على القطاع منذ حوالي 16 عامًا.

في الأرقام، حوالي 25 ألف طفل في القطاع باتوا أيتامًا جرّاء استشهاد أحد أو كلّي والديهم، بينما دُمّرت أو تضرّرت منازل نحو 460 ألفًا منهم، ما يجعلهم من دون مأوى، ولوقتٍ طويل، وفق تقديرات «المرصد الأورومتوسّطي». حوالي 1550 عائلة فقدت أكثر من فرد من أفراد العائلة، بحسب مسؤولين في وزارة الصحة الفلسطينية. بالنسبة للطفل، يخلّف فقدان من يقدّم له الحماية، الأب/ الأمّ/ الأهل/ البالغ/ المعيل، أثرًا نفسيًّا مهولاً. أطفال غزة يشعرون اليوم بفقدان الأمان الذي يشكّل حاجةً أساسيةً لتطوّرهم العقليّ والنفسيّ السليم.

وفي الإطار، يتحدّث المرصد عن أزماتٍ صحية نفسيّة واضطراباتٍ مركّبة يعيشها أطفال غزة منذ سنواتٍ طويلة، مشيرًا إلى أنّ 4 من كلّ 5 أطفال كانوا يعانون قبل الهجوم الحالي من الاكتئاب أو الحزن أو الخوف، وهو تدهور حادّ مقارنةً بدراساتٍ سابقة.

وعلى الرغم من كارثيّة الوضع، يعي مقدّمو الرعاية، سواءً النفسية أو العينيّة، خطورة الوضع على أطفال غزة. وفي وجه عدم اكتراث الاحتلال الإسرائيلي بالقوانين الدولية التي تحمي تلك الفئة الهشّة، وتصريحات مسؤوليه حول عزمهم عن متابعة الحرب بدعمٍ دوليّ أو من دونه، يخاطر مقدّمو الرعاية بحياتهم من أجل التدخّل والاستجابة وتقديم الدعم، سواءً من جمعياتٍ محلّية أو عاملين دوليين فقد الكثيرُ منهم حياته لهذا الغرض. من هؤلاء نذكر مؤسسة «جذور» و«الشبكة الفلسطينية للطفولة المبكّرة» اللّتين تعملان على الأرض ومع المؤسسات المعنيّة في تقديم برامج تلبّي أقلّ قدر ممكن من احتياجات الأطفال والأهل ومقدّمي الرعاية في هذه الأوضاع الدقيقة.