نتواصل لأجل أطفال سعداء
We Communicate For Happy Children

كيف يقتل نقص التمويل طفلًا؟

تقليص المساعدات في قطاع تنمية الطفولة المبكّرة

 

11  آب/ أغسطس 2025

منذ سنوات، يشهد العالم تحوّلات جذريّة في نظام المساعدات الإنسانيّة. يُترجَم هذا التحوّل في التناقص المتسارع لحجم المساعدات الإنسانيّة والإنمائية والتمويل المخصّص للدول المصنَّفة على أنها نامية. هذا يشمل المجالات كافّة، من غذائية وصحية وبرامج تعليمية وتمويل إنتاج المعرفة وغيرها من القطاعات، ما يؤثّر بشكل مباشر على حقوق الأطفال والأهل ومقدّمي/ات الرعاية لهم، بجميع أشكالها.  

خلال العامين الماضيين، بلغت تخفيضات الدول المانحة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة ودول أوروبيّة عدّة، ذروتَها. أتى ذلك مع تسجيل النزاعات والمجازر والتهجير والتجويع وعدم الاستقرار السياسي والتغيّر المناخي أعلى مستوياتها منذ عقود. وللمنطقة العربية حصّة وازنة من هذه الأزمات المتعدّدة الأوجه، من قطاع غزة والضفّة الغربية المحتلّة إلى السودان وسوريا ولبنان واليمن وغيرها.

في الأصل، المساعدات الإنسانية والإنمائية شحيحة وغير متناسبة مع مستوى حاجات شرائح تلك الدول، وعلى رأسها الأطفال الصغار. ومع ارتفاع كمّ الأزمات وحجمها، فاضلت الدولُ المانحة بين نفقاتها الإنسانيّة من جهة والعسكريّة وميزانيّاتها الدفاعيّة من جهة ثانية.

كالمعتاد، مالت الكفّة نحو رفع نفقات الإنفاق العسكري والميزانيات الدفاعيّة بشكل غير مسبوق منذ عقود، على حساب المخصّصات ذات الغرض الإنسانيّ. بين 2015 و2024، سجّل الإنفاقُ العسكري الإجمالي ارتفاعًا بنسبة 37%، وفق «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام».

أتى ذلك في وقت يُجمع فيه خبراء التنمية على أنّ النظام الدولي لا يسير بشكلٍ يقود إلى مستقبل يتخفّف معه العالمُ من عبء الاعتماد على المساعدات الإنسانية والتنموية والتمويل اللازم للفئات الضعيفة. يفتح هذا الأمر واسعًا بابَ التساؤل حول الاعتماد على آليّات تمويلية بديلة ووضع سياسات وإنشاء مؤسسات تعوّض نقصَ التمويل الدولي. في هذا الإطار، يمكن الحديث مثلًا عن تعزيز التمويل المحلّي ودور الحكومات المحلية والبلديات والمنظّمات المحلية بدلًا من التمويل عبر وسطاء دوليين، والتمويل المجتمعي كالمبادرات المجتمعية وصناديق التكافل القائمة على التضامن المحلّي، بالإضافة إلى التمويل الإنساني اللامركزي ومتعدّد القنوات والذي يهدف إلى نقل السلطة الماليّة من الجهات الدولية المركزيّة إلى جهات محلّيّة متعدّدة.

يعاني عالم تنمية الطفولة المبكّرة على وجه الخصوص من نقص حادّ في التمويل، في وقت يحتاج فيه طفل من كلّ 11 طفلًا إلى مساعدات إنسانية على المستوى العالمي. يمسّ التخفيض المنظّمات الدولية الأساسيّة المعنيّة بالطفولة، بشكل مباشر وغير مباشر؛ كالـ«يونيسف» و«الأونروا» و«أنقِذوا الأطفال» و«برنامج الأغذية العالمي» و«المنظّمة الدولية للهجرة» و«المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين». وعلى الرغم من الوضع السيّء عمومًا، تشكّل المنظّمات والمؤسّسات المحلية أكبرَ المتضرّرين من تخفيض التمويل والمساعدات، خصوصًا في البلدان العربية.

وما تطرّقت إليه «الإسكوا» خلال «المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية» حول «اللامساواة في نظام التمويل العالمي التي لطالما قيّدت التنمية المستدامة في المنطقة العربية» يشكّل جوهرَ المشكلة التي تعاني منها المنظّمات العربية، خصوصًا العاملة في قطاع تنمية الطفولة المبكّرة. وبحسب المنظّمة الدولية، شكّل المؤتمر فرصةً لمعالجة هذه التفاوتات وذلك «عبر إصلاح نظام التمويل العالمي، الذي بات متقادمًا، وعاملًا في تعميق فجوات التمويل، وهو يؤثّر بشدّة على المنطقة العربية».

من مؤشّرات تقادم هذا النظام:

  • وجود مركزيّة شديدة في القرار وتوزيع الموارد، مع طغيان البيروقراطيّة وفرض شروط تقنيّة وإداريّة معقّدة تتجاوز قدرةَ الكثير من المنظمات المحلية.
  • ضعف شديد في التمويل المباشر للجهات المحلّيّة على الرغم من ارتفاع وتيرة الدعوات إلى توطين المساعدات خلال السنوات الماضية. يؤدّي هذا إلى حرمان المنظّمات المحلية من لعب دور بارز في القيادة الحقيقيّة.
  • تركّز التمويل في أزمات معيّنة مع وجود ازدواجية في المعايير.
  • استخدام التمويل في كثيرٍ من الحالات كأداة ضغط سياسي.


أبرز ملامح تخفيض التمويل وآثاره على قطاع الطفولة المبكّرة

خلّف تغيّرُ أطر المساعدات والأطر التمويلية خلال الفترة الماضية أثرًا مَهولًا على قطاع تنمية الطفولة المبكّرة، خصوصًا على المنظّمات المحلية في البلدان العربية. وانطلاقًا من كون «الشبكة العربية للطفولة المبكّرة» منظّمة عربية تعمل بالشراكة مع منظّمات دولية وإقليمية ومحلية ضمن هذا القطاع، نجد أنفسنا معنيّين، مع شركائنا، في تسليط الضوء على خلفيّات تخفيض التمويل وآثاره، سواءً بشكل مباشر على الأطفال الصغار ومقدّمي/ات الرعاية، أو وسائطِهم من المنظّمات المعنيّة بقطاع الطفولة المبكّرة.

  1. خفض التمويل المخصّص لمكافحة سوء التغذية لدى الأطفال دون سنّ الخامسة، ما يؤدّي إلى:
  • منع العلاج عن 2.3 مليون طفل في الدول ذات الدخل المتوسّط والمنخفض. يؤدّي هذا إلى ارتفاع معدّل وفيات الأطفال، مع تقديرات بوفاة 369 ألف طفل إضافي سنويًّا، بحسب ائتلاف من الخبراء في مجالَي التغذية ونُظم الغذاء.
  • نسف عقود من التقدّم باتّجاه الحدّ من سوء تغذية الأطفال والأمّهات.
  • عواقب طويلة الأمد، على رأسها تأخّر في النموّ الجسدي والمعرفي للأطفال المصابين بسوء التغذية.
  • كلفة اقتصاديّة عالية ناتجة عن فقدان رأس المال البشري وارتفاع كلفة الرعاية الصحية، ما يؤدّي إلى تراجع مؤشرات الصحة العامة والتنمية لعقود.
  • تضرّر ملايين الأطفال في البلدان العربية وارتفاع نسبة الوفيات، خصوصًا مع التجويع المنتشر المجاعة المنتشرة وإنقاص المواد الغذائية بشكل مقصود في قطاع غزة والسودان، ونسب سوء التغذية المرتفعة في الصومال واليمن ولبنان وجنوب السودان.
  1. خفض تمويل القطاعات الصحّية ومشاريع الصحة العالمية المنقذة للحياة ما يؤدّي إلى:
  • تعرُّض جهود التحصين العالميّة إلى خطر متزايد، مع ارتفاع نسبة الإصابة بأمراض يمكن الوقاية منها، وارتفاع عدد الأطفال الذين فاتتهم التطعيمات الروتينية خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في الدول ذات الدخل المتوسّط والمنخفض، وهو ما حذّر منه كلٌّ من «منظمة الصحة العالمية» و«اليونيسف» و«التحالف العالمي للّقاح والتحصين».
  • التأثير على المجتمعات النازحة، خصوصًا الأطفال. بسبب انخفاض التمويل، يتمّ حرمان حوالي 12.8 مليون شخص نازح قسرًا، بينهم 6.3 مليون طفل، من الأنشطة الصحية المنقذة للحياة خلال عام 2025، بحسب «المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين».

فقدان مئات آلاف الحوامل إمكانية الوصول إلى رعاية ما قبل الولادة، ما يرفع نسب الإجهاض والولادات المبكّرة والتشوّهات.

  1. انخفاض نسبة المساعدات المخصّصة للتعليم ما قبل المدرسي:
  • في الأصل، كانت نسب التمويل لهذه المرحلة في تراجع حتى قبل أن تتخلّى الولايات المتّحدة عن برامجها، وقبل تقليص هيئات دولية إنفاقها.
  • بحسب التقارير، تتركّز المساعدات في أيدي عدد قليل من الجهات المانحة لهذه المرحلة التعليمية، من بينها «اليونيسف» التي خفّضت مخصّصاتها الماليّة، ما يؤثّر بشكل مباشر على هذا القطاع كونها مؤسسة معنيّة مباشرةً بالأطفال.
  • تتوجّه المساعدات المخصّصة لقطاع التعليم بشكل كبير نحو التعليم العالي على حساب التعليم ما قبل المدرسي، بحسب تقرير لمنظّمة Theirworld و«جامعة كامبردج»، ما يولّد خللًا في التوازن ونشأة الطفل التعليمية.
  • التأثير الأكبر لهذه التقليصات سيكون في الدول الأكثر حاجة، خصوصًا التي تعاني من نزاعات مستمرّة أو حاليّة، مثل قطاع غزّة والسودان وسوريا.
  1. تقليص التمويل على إنتاج المعرفة:

على الرغم من التقدم الحاصل على مستوى إنتاج المعرفة المتعلّقة بقطاع تنمية الطفولة المبكّرة عالميًّا خلال العقد الأخير، ما زالت البلدان العربية تعوز الإنتاج الكافي. تصبّ «الشبكة العربية» تركيزها على المشاركة في سدّ هذه الفجوة، فكان مثلًا تأسيس «مجموعة العمل العربية لبحوث الطفولة المبكّرة» و«مجموعة الدراسات الاستراتيجية» التي أسّستها في البلدان العربية.

في الأثر:

  • تقليص حجم إنتاج المعرفة ضمن هذا القطاع وتراجع مستواه، خصوصًا في السياقات المحلية.
  • صعوبة تنفيذ أبحاث ميدانية، وانخفاض حجم إصدار التقارير الدورية أو أوراق السياسات التي تعتمد  على الأدلّة والبيانات الدقيقة.
  • ضعف القدرة على التوثيق ومراكمة المعرفة المحلية، وصعوبة بناء قاعدة معرفيّة عربيّة على مستوى إنتاج المعرفة ضمن هذا القطاع.
  • تعطيل بناء القدرات البحثية الوطنية بسبب غياب الحوافز، خصوصًا من الشباب المهتمّين بالطفولة المبكّرة، وانسحاب الباحثين/ات المحليين/ات لصالح فرص عمل أكثر استقرارًا.
  • الحدّ من قدرة المنظّمات العربية، على تأسيس شراكات إقليمية وعالمية بحثية، ما يؤدّي بدوره إلى ضعف الحضور العربي في منصّات المعرفة الدولية.
  • تقويض المبادرات المشابهة لمبادرة «مجموعة البحوث العربية» التي أسّستها «الشبكة العربية».

وعليه، تدعو «الشبكة العربية» إلى:

  • توحيد جهود المنظّمات المعنيّة بقطاع الطفولة المبكّرة، إقليميًّا وعالميًّا، للبناء على مخرجات المؤتمرات المخصّصة للبحث في تقليص المساعدات والتمويل.
  • صبّ التركيز على المنظّمات العاملة في البلدان العربية التي تعاني من أعلى مستوى أزمات متعدّدة الأبعاد، والابتعاد عن ازدواجية المعايير.
  • تركيز الجهود البحثيّة على مسألة تقليص المساعدات والتمويل وآثارها على قطاع تنمية الطفولة المبكّرة.
  • إطلاق حملات مناصرة يكون موضوعها إصلاح نظام التمويل العالمي وإمكانية البحث عن بدائل تمويليّة تعوّض نقصَ التمويل الدولي في البلدان العربية.
  • من مصادر التمويل البديلة المبادرات المجتمية وصناديق التكافل والحكومات والمنظّمات المحلية والتعاون على المستوى الإقليمي بين المؤسسات المعنيّة بقطاع الطفولة المبكّرة وغيرها، على أن يكون ذلك ضمن سياسة متكاملة.
  • الالتفات إلى أنّ تخفيض التمويل والمساعدات بهذا الحجم عن برامج الطفولة المبكّرة لن يؤدّي فقط إلى ارتفاع معدّلات الأطفال الذين سيواجهون خطر الموت، إنما سيقضي كذلك على سنوات من العمل الجادّ الذي أسّس له مئات المنظّمات وأصحاب الشأن.

نصرةً لأطفالنا، فلنتحرّك الآن قبل فوات الأوان!